Par : Ibrahim Hariri
أخذ مصطفى اليد اليمنى لأبيه عزيز وربطها بيسراه. كان الأب يغط في نوم عميق وهادئ حينما ربط مصطفى يده بيد أبيه بواسطة شريط طويل. كلما فعل مصطفى ذلك، تنزل دمعة حارة على خديه ولا يستطيع إخفاء مشاعر الإحساس بنوع من العقوق تجاهه، لكنه لا يملك بديلا.
عزيز رجل في أواخر عقده السابع، ماتت زوجته وأم أبنائه أمينة تلك المرأة التي تقاسمت معه الأيام الخوالي بحلوها ومرها. بقي وحيدا في شقته السفلية المطلة على الشارع العام. أبناؤه الثلاثة يعيشون جميعهم خارج البلاد. رضوان يشتغل مهندسا معلوماتيا بكندا. عصام لا يزال مهاجرا سريا بفرنسا ومصطفى يمتلك مطعما مغربيا صغيرا بضاحية نابولي بإيطاليا.
ثلاثتهم يرسلون لأبيهم بداية كل شهر مصروفه الشهري ويفخرون بهاته العلاقة مع أبيهم المسنودة بالرضى المتبادل.
لكن الرضى سرعان ما بدأ يهتز. في إحدى الليالي الباردة وهو يهم بالخروج من مطعمه بنابولي حوالي الواحدة صباحا، رن هاتفه. كان المتصل جار أبيه، السيد أحمد. الاتصال بمثل هذا الوقت المتأخر يحمل حتما أنباء غير سارة.
” هل أصاب أبي مكروها؟ ” تساءل مصطفى وهو يهم بالجواب.
طال وقت المجاملات بين مصطفى وأحمد، عن أحوال الطقس الباردة في المغرب، عن المطر القليل والبرد المقيم، عن إيطاليا وأحوال الطقس هناك.
“يبدو أن لا شيء مهم، يجب إنهاء هذه المكالمة إذن ” قال مصطفى في نفسه وبدأ يرسل إشارات تنم عن الإعياء والرغبة في النوم. تفطن أحمد للأمر وأخبره بأنه يتصل به لأن أباه عزيز صار يخرج ليلا ويتيه ولا يستطيع العودة إلى بيته إلا بمساعدة بعض الأغراب. يبدو أنه أصيب بمرض ما.
أصابه الذهول. شكر الرجل باقتضاب ثم اتصل تواليا، مع علمه باختلاف التوقيت، بأخويه بكل من فرنسا وكندا وأخبرهما بالأمر الجلل. هونا عليه الأمر، رضوان لا يستطيع عيادة أبيه، لا يزال مهاجرا سريا في مارسيليا ونجيب بعيد جدا بمونريال.
قرر مصطفى بعدها أن يزور أباه خلال نفس الأسبوع. هناك وقف على حال أبيه. لم يعد باستطاعته الاطمئنان على صديق طفولته وأبيه. الرجل الذي اختزل في أبنائه الأصدقاء والخلان والأبناء، فبادلوه احتراما باحترام، تفتحا بتفتح وحنوا بحدب. أخبره الطبيب أن حالته ليست بالخطورة لكنه يحتاج إلى رفقة لأن حالته قد تتطور. الأدوية في حالته تعمل فقط على تأخير تطور المرض وليس توقيفه أو بالأحرى علاجه.
تفتقت عبقرية الإخوة الثلاثة على تزويج عزيز بامرأة في حدود الأربعين، تكون زوجة وممرضة ويضمنون لها، في حال وفاة عزيز، بأن تصير الشقة من نصيبها.
دخلت فاطمة لتعوض مكان أمينة في شقة السي عزيز. تمر الأيام سريعا وحالة عزيز تتفاقم يوما إثر يوم. صار يرفض تناول العقاقير. لم يعد يتذكر زوجته فاطمة. يتشاجر معها في كل حين ويطالبها بمغادرة بيته لأنه لا يعرفها.
اشتكت لمصطفى، اشتكت لعصام وحكت طويلا ألمها لرضوان. لقد عيل صبرها، طلبت الطلاق.
“لا بد مما ليس منه بد” قال مصطفى في مونولوغ داخلي بعدما صار عزيز وحيدا للمرة الثانية في شقته.
عاد مصطفى بالقرب من أبيه بعدما أغلق المطعم الذي بدأت تصيبه لعنة الانكماش الاقتصادي الذي ضرب بلاد السباكيتي والمعكرونة. عاد بعد أن حول كل رصيده للمغرب وقرر الاعتناء بعزيز.
– أين أنا ؟
صاح في إحدى الليالي عزيز. كان قد استفاق ليلا، ذهب إلى المرحاض، لكنه لم يستطع العودة لغرفته. صار يصيح بأعلى صوته ويضرب باب المرحاض براحته بكل قوة وعنق يملكهما الإنسان في تلك الحالة من الضياع التام. أن تفقد ذاكرة الوجوه شيء وأن تفقد ذاكرة الأماكن شيء مختلف تماما، لكنه لا يدري. نهض مصطفى مرعوبا، لم يعرف أين يتجه، يغالب النعاس ويسيخ السمع عسى أن يتبين مصدر الصراخ. عندما حزر أنه أغلق دونه الباب ولم يعد يدري كيف يفتح الباب وعوض ذلك بالصراخ سقطت دمعة حرى على خده، مسحها بظاهر كفه، استعاد من الشيطان وفتح الباب. عزيز كان شاحبا، عروق عنقه بادية وفمه جف من كثرة الصياح. ربت مصطفى على كتف أبيه وأخذه برفق لسريره.
تكرر الأمر مرارا داخل الشقة المتكونة من صالون كبير وثلاث غرف ومطبخ وحمام. كأن يكون بالمطبخ ولا يعرف مكان الصالون، أو أن يفقد الإحساس بجغرافية المكان فيتبول بالقرب من التلفاز.
مصطفى عيل صبره، طلب عون أخويه. ذات اللازمة، أخ لا يملك الأوراق الثبوتية للعودة للمغرب وأخ بعيد في بلاد الثلج المقيم. يعوضاه بهدايا وبكلمات التحمل ورضى الوالدين كرداء دنيوي وأخروي لا يبلى.
– آي
صاح عزيز بأعلى صوته. نهض مصطفى متثاقلا بفعل قلة النوم. سمع صياح أبيه وصار يبحث عن مصدر الصوت. هذه المرة، الصوت قادم من المطبخ. الفرن مشتعل ويد عزيز اليمنى محترقة بالكامل والرجل يبكي. يضع عزيز يده فوق الفرن، ينظر إليها تحترق لكنه فقد، هذه المرة، المهارة الإنسانية الأولى لسحب يده.
حمله في ذلك الليل إلى المستشفى، ضمد حروقه وعاد بقلب منكسر حزين.
” اربطه، قال جاره أحمد، اربطه ليلا بيدك، هكذا إذا نهض، تنهض معه ولا تفارقه”.
“ليست بها أي شبهة حرام، إنما الأعمال بالنيات” أكد فقيه الحي لمصطفى وهو يربت على كتفه، ثم أضاف ” اربطه بلين وبحبل من ثوب، أعانك الله يا بني”.
ليلا عندما يغمض عزيز عينيه بفعل المنوم الخفيف، يأخذ مصطفى يده اليسرى ويربطها بيمناه عبر شريط من ثوب حريري قشيب مرخي وطويل. ينظر إليه نظرة أسى وحسرة، يقبل اليد المربوطة، يلثمها برفق وهو يقول “سامحني يا أبي”.
إبراهيم حريري
كاتب وصحفي