Collège CSM Montréal Collège CSM

الكتابة في زمن اللامعنى

إبراهيم حريري

Vues d'Afrique

Par : Brahim Hariri

…صعب أن تكتب ما تريده فعلا. صعب أن تكون ما تحب أن تكونه، دون وصاية من أحد

يعتقد الكاتب أنه حر عندما يكتب، أو لنقل إنه يدعي الحرية وهو يعلم يقينا أنه بعيد بعيد جداًّ عن الحرية المدعاة

هناك من يقرر المواضيع والكاتب والكتاب يسيرون في ذلك الدرب عماة ثم يتشدقون بالحرية والاستقلالية…

أنا ألومهم. أنا لا ألومهم.أنا لا ألومهم

أنا لا ألومهم لسبب بسيط وهو أن القراء، في بلادي، شبه منعدمين. والكاتب يجب، يحلم ويتمنى أن يقرأ. يحلم أن يقرأ الناس ما تخط يداه، ما يخفق به قلبه، ما يعتصره من أفكار

عندما يصطدم الكاتب بعدم المقروئية التي تعني الجفاء وعدم العرفان، فإنه يرتمي في حضن أولئك الذين يحددون الرؤى والمضامين والقضايا والإشكالات. يكتب حسب ما يقررون. يكتب بيده وليس بخافقه

عندما يغيب القراء وتغيب الدولة وتغيب المؤسسات، فإن الكاتب يغرق ويغرف من المعين الموجود. وهو، للأسف، معين زائف، ماؤه عكر أجاج كلما شربت منه ازددت عطشا

أنا ألُومهم

ليست المقروئية شهادة لا تضاهى لتقييم عمل أدبي معين. لنا في التاريخ شواهد لكتاب ظلوا على الهامش إلى أن تمت إعادة اكتشافهم لاحقا وصاروا ذوي مقروئية تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية الضيقة، صاروا كتابا عالميين ولكل العصور.

لايفترض بكاتب من العالم الثالث أن يكتب إلا ما تفرضه وتمليه عليه المؤسسات الراعية والداعمة والمانحة للجوائز، إن هو أراد جزءاً من عالمية موهومة.

الأكيد أنه ليس كل الكتاب من ذات الصنف. لكن ما نشاهده اليوم في الحقل الثقافي العربي من مواضيع يتم التهليل لها، في الرواية والمسرح والسينما…يجعلنا ندق ناقوس الخطر

لست ولن أكون كاتبا تحت الطلب. لم أكتب في المواضيع التي تطلبها الدول “الديموقراطية جدا”، لن أكتب عن الحريات الفردية كموضوعة وحيدة وفريدة وأساسية بل تيمة التيمات في الراهن العربي والمغربي. ثمة، أيضا وأساسا، مواضيع أخرى. هناك الفقر والظلم والإقصاء الاجتماعي وتعطل المصعد الاجتماعي…هناك أيضا موضوع بناء الدولة الوطنية الذي لا يزال برنامجا ذو مشروعية. وأساسا هناك الإنسان

ليس هناك، حصريا، مطلب “زعزعة الإيمان” للمتلقي. إذا كانت الحرية مرادفا للشك، فإن شكي ينصبُّ على ما هو المطلوب من نشر اللاإيمان. إن إيماني أو كفري لا يلزمني إلا أنا شخصيا. القارئ والمتلقي ليس من شأنه إيماني أو كفري أو ميولاتي الجنسية إلا من باب التلصص الطبيعي في الإنسان. ما يهم القارئ هو التعبير عن المآسي الإنسانية، هو القدرة على استغوار النفس الإنسانية وجعلها تصعد، رويد رويدا، من القاع السحيق للتخلف إلى السطح

عندما أقرأ بعض الأعمال، هناك ملمح من “شيء سبق وأن قرأته” ملمح من “شيء سبق وأن شاهدته” كما يقول الفرنسيون. هذا الملمح هو ما أسميه الكتابة تحت الطلب.

أن يكون لك قلم متفرد، أن يكون لك أسلوب خاص يعني أيضا وأساسا أن تعيد اكتشاف معنى جديدا ل” الكاتب العضوي”

معناه أيضا أن تعيد صياغة الأسئلة المقلقة حول الدولة والمجتمع والإنسان، حول الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية. معناه أن تجتهد في البحث عن الحلول الممكنة من خلال التجارب الفاشلة لتكشف ويكتشف القارئ أسباب الفشل. ثم البحث عن الحلول من خلال النجاحات المحدودة، والتي لا نعدمها في مسيرتنا الوطنية والعربية والعالم الثالثية، للوقوف على كوات الضوء الممكنة ثم النفاذ منها حتى يخترق الضوء كل مناحي الحياة

أعرف أن هذه المهام لم تعد مطروحة على جدول أعمال كتابنا ومخرجينا إلا ما نذر. لماذا؟

إن ما يعتمل اليوم في حقل السياسة والآداب والسينما هو العودة نوعا ما نحو مفهوم “نهاية التاريخ” الهيجيلي وبصفة خاصة “نهاية التاريخ” على طريقة فرانسيس فوكوياما. وعليه، فإن الدول والأفراد، الكتاب والمثقفين وعموم المواطنين ليس لهم إلا أن يقتفوا الأثر الأوروبي الناجز والقائم

هذه الدعوة نحو “المركزية الغربية الجديدة” تغذيها وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي وتنشرها مؤسسات دولية في حقول شتى وضمنها الحقل الثقافي في الآداب والسينما، وكل من يتمرد عن هذه “المركزية” يكون مصيره التجاهل

غير أن مجابهة هذا التيار “المركزية الأوروبية الجديدة” تحمل في ذاتها مخاطر عودة نحو “النكوصية” ونحو نوع من التقوقع على الذات المتوهمة وليست الذات الحقيقية

هكذا، فإن الكاتب والفنان الحقيقي يجب أن يتسلح بسيف ذو حدين. سيف يرفض به هذه النهاية للتاريخ، أي هذه المركزية الأوروبية وسيف يقطع به كل عودة للقهقرى

كيف؟

ذلك هو السؤل

ذلك هو الفن

الفن الأصيل

Vues d'Afrique
Vues d'Afrique